جديدنا:

  • تم افتتاح كلية العلوم الطبية في تخصصات الطب البديل والتكميلي وغيرها.. بجميع الدرجات العلمية (بكالوريوس – ماجستير -دكتوراه) وبنظام الدراسة عن بعد أو معادلة الخبرات – وباعتماد من التعليم العالي والخارجية والسفارات – للتفاصيل اضغط هنا
  • اعتماد الدورات من كليات عالمية وتوثيق من الخارجية والسفارات.
  • يمكننا تشخيص حالتك وعمل جلسات الرقية الشرعية عن بعد: اضغط هنا للمزيد…

المقال الثامن: الأمراض الروحية


المقال الثامن: الأمراض الروحية

اشتُهِرَ إطلاق مصطلح الأمراض الروحية على جميع أمراض السحر والعين والحسد والمس وأمثالها مما يُرى أن له علاقة بالجن، وقد يظن البعض أنَّ سبب هذه التسمية هو الاعتقاد أن مصدر هذه الأمراض ومجالها هي الروح التي نفخها الله فينا، ورُبَّما لأنَّه كان سائداً عند البعض أن الجن التي تؤذي الإنسان عبارة عن مجرد أرواح، وأنَّ تأثيرهم واقع على أرواحنا.

وهذه الظنون والاعتقادات ليس لها دليل صريحٌ من كتاب الله ولا من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن الجن كائنات من روح وجسد مثلنا، أجسادنا خلقها الله سبحانه وتعالى من تراب، وأجسادهم خلقها الله سبحانه وتعالى من نار. أما أنَّ تأثيرها حاصل مِنْ أو على أرواحنا التي نفخها الله فينا فهذا كلام ليس عليه دليل شرعي أو إثبات نقلي صريح. ولا نعرف أصلاً ماهيَّة الروح بشكلٍ جازمٍ حتى نعرف إن كان يؤثر فيها الجن أو هذه الأمراض أم لا، أو إن كان يخرج منها شيء أو لا، وليس لنا أي سبيل لمعرفة ذلك إلا عن طريق الوحي الذي انقطع مع وفاة رسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى {ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: ٨٥].

والحقيقة أنَّ هذا المصطلح لم يكن موجوداً لدى الصحابة رضي الله عنهم أو السلف الصالح رحمهم الله، لكنه دخل على المسلمين مع حركة الترجمة في عصر الخلافة العباسية، حيث أنَّ من معاني الروح في كلام العرب النفخ[1]، كذلك نسيم الريح[2]، و فِي الفلسفة مَا يُقَابل الْمَادَّة[3]، وفِي الكيمياء الْجُزْء الطيار للمادة بعد تقطيرها[4]. فاستعملها الفلاسفة العرب ومن أتى بعدهم من الأطباء حتى أنناَّ نجد هذا المصطلح في جميع الكتب الطبية القديمة.

يقول الخوارزمي: (والأرواح عند الفلاسفة[5] هي ثلاث:

1.        الروح الطبيعية وهي في الحيوان في الكبد وهي مشتركة بين الحيوان والنبات وتنبعث في العروق غير الضوارب إلى جميع البدن.

2.        والروح الحيوانية هي للحيوان الناطق وغير الناطق وهي في القلب وتنبعث منه في الشرايين وهي العروق الضوارب إلى أعضاء البدن.

3.        والروح النفسانية وهي في الدماغ تنبعث منه إلى أعضاء البدن في الأعصاب.)[6]

ولو نظرنا إلى كتاب “القانون في الطب” لرئيس الأطباء ابن سينا والذي يُعد أعظم وأهم مرجع للطب اليوناني فإننا نقرأ كلمة الروح قرابة المائة والأربعين مرة، مقسَّمةً إلى روح بخارية وروح حيوانية وأخرى شهوانية ونفسانية وغير ذلك، تبدأ بقوله (وأما الأسباب التمامية: فالأفعال، وفي معرفة الأفعال معرفة القوى لا محالة، ومعرفة الأرواح الحاملة للقوى كما سنبين، فهذه موضوعات صناعة الطب)[7]، وفي ثنايا كتابه يقول (فإن مبدأ الحياة هو القلب والروح وهما حاران جدا مائلان إلى الإفراط)[8]، (ومن الواجب أن يخلط بالأدوية المسهلة الأدوية العطرية ليحفظ بها قوى الأعضاء، والأدوية الطيبة حسنة الموقع من ذلك لأنها تقوي الروح الحيواني في كل عضو)[9]، (والثانية حيوانية: وهي القوة النابضة لتخلف بدل ما يتحلل من الروح الذي جوهره هوائي ناري)[10]، كذلك في كتاب “الحاوي في الطب” للرازي ذُكِرَت الرُّوح قرابة الخمس والخمسين مرة، بل إنَّ كتاب “الشَّامل في الصناعة الطبية” لابن النفيس حوى باباً خاصاًّ عن الأرواح[11]. وعلى نهجهم سار العلاَّمة ابن القيم رحمه الله فيقول في فصل الطب النبوي في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد عن سبب خروج البدن عن طبيعته (قَدْ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْعُضْوِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْقُوَى أَوِ الْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لَهَا)[12]، ويقول عن المريض (متى قَوِيَتْ نَفْسُهُ انْبَعَثَتْ حَرَارَتُهُ الْغَرِيزِيَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْأَرْوَاحِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَمَتَى قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ، قَوِيَتِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ حَامِلَةٌ لَهَا، فَقَهَرَتِ الْمَرَضَ وَدَفَعَتْهُ)[13]، ويَتكلَّم عن الصرع الناتج عن الأخلاط فيقول (وَقَدْ تَكُونُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ كَرِيحٍ غَلِيظٍ يُحْتَبَسُ فِي مَنَافِذِ الرُّوحِ)[14]، ويقول عن النَّوم المعتدل (وَالنَّوْمُ الْمُعْتَدِلُ مُمَكِّنٌ لِلْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ أَفْعَالِهَا، مُرِيحٌ لِلْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ، مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا عَادَ بِإِرَخَائِهِ مَانِعًا مِنْ تَحَلُّلِ الْأَرْوَاحِ.)[15].

وإذا علمنا ما سبق فإنَّهُ عندما يقول ابن القيم رحمه الله (وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ قُوًى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً، وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا خَوَاصَّ وَكَيْفِيَّاتٍ مُؤَثِّرَةً، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إِنْكَارُ تأثير الأرواح في الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرُّ حُمْرَةً شَدِيدَةً إِذَا نَظَرَ إليه من يحتشمه ويستحي منهج وَيَصْفَرُّ صُفْرَةً شَدِيدَةً عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنَ النَّظَرِ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ، وَلِشِدَّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلرُّوحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَقُوَاهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا وَخَوَاصِّهَا، فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيِّنًا)[16]؛ فإنَّ ابن القيم رحمه الله لا يقصد بتاتاً الروح التي نفخها الله في الإنسان، بل إنَّ ابن القيم رحمه الله ممن نهج منهج الصحابة – رضي الله عنهم- والسلف الصالح رحمهم الله بلا ابتداع ويعلم علم اليقين أنَّه ليس له طريق لمعرفة أي شيء عن الروح التي نفخها الله في الإنسان.

وكأنَّ الإمام الغزالي رحمه الله عرف استشكال المسألة علينا فيقول : (فإنْ قُلتَ فقد وَصفتَ الرُّوح ومَثَّلته؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: ٨٥] فلم يصفه لهم على هذا الوجه؛ فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح، فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن، إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً، وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء، وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به، حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح، فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها، ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب، وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء، وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل، وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه، ولا رخصة في وصفه إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: ٨٥] ، والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها، بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق، وأما الأوهام والخيالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات، وتتزلزل في ذكر مبادىء وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض؛ المحبوسة في مضيقها، فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه)[17].

وقد يُطرح هنا سؤال مهم، ألا وهو: إذاً ما هي هذه الروح التي تكلموا عنها، وأقول أنَّ هذا شيء يجب على الأطباء والباحثين في عصرنا الإجابة عليه، فهل هي عبارة عن خلايا معينة، أو أيونات وذرات، أو تيارات كهربائية في الجسد، أو الطاقة كما يسميها الطب الصيني، أو غير ذلك مما تم الكشف عنه، أو لم يتم كشفه بالأجهزة المخترعة إلى الآن؟

كذلك يُطرح سؤال آخر، هل ما ذكروه من أثر هذه الأرواح في الأمراض الروحية أمرٌ صحيح، وجواب هذا السؤال لا يمكن أن يتمَّ إلا بإجراء الأبحاث والتجارب بعد معرفة ماهية الروح التي تحدثوا عنها.

والمشاهَدُ والمجرَّبُ في عصرنا أنَّ الجِنَّ يؤثِّرُون على أعضاء الجسد وأجزائه فيسببون أمراضاً عضوية أو نفسية.

ولقد فهم بعض المفتين في زماننا أن الأمراض الروحية بسبب الروح التي نفخها الله فينا، وكان لهذا الفهم الخاطئ لدى البعض أثره في الفتاوى والأحكام الشرعية، فذهب البعض إلى أن هذه الأمراض من علم الغيب ولا يمكن معرفة كُنهِها بسبب تعلقها بالروح، كذلك لا ينبغي محاولة التبحر لمعرفة هذه الأمراض، وكل من حاول الاستزادة رُمِيَ بالدجل والشعوذة وادعاء علم الغيب.

والحقيقة أنه لا يوجد في الإسلام ما يثبت أن هذه الأمراض وعلومها من علم الغيب الذي لا يمكن الوصول إليه، بل إن هذه الأمراض هي مثل الأمراض العضوية يمكن البحث والتأصيل فيها، كما يمكن إجراء تجارب وأبحاث عليها حتى يمكن الوصول إلى أفضل العلاجات لها. والقرآن شفاؤه ليس بخاص لهذه الأمراض، بل شفاؤه كما ذكرتُ من قبل لجميع أنواع الأمراض- روحية وغير روحية-، ومن المؤكَّد أن علاج القرآن نافع لكل شيء، لكنه ليس العلاج الوحيد للأمراض الروحية، ولا يوجد أي دليل يدل على إفراد القرآن واختصاصه دون غيره لعلاج الأمراض الروحية.

وهذه الأمراض موجودة من قبل مجيء الإسلام، بل من الممكن القول أنها موجودة منذ بدء تاريخ البشرية، ومن البديهي جداً أنَّ الناس كانوا يتعالجون منها بأشياء مادية محسوسة طيلة آلاف السنين، ولكن الاستعمار الغربي وسطوة أفكاره ومذهبه الطبي على بلاد المسلمين أبعدنا عن البحث في هذه الأمراض وعلاجاتها. كما أن هذه الأمراض بالنسبة لنا الآن هي كمثل البكتيريا والفيروسات والكائنات الدقيقة لمن قبلنا، فهم كانوا يرون الفواكهَ يُصيبُها العفن، ولكن لم يكونوا يعرفون ماهي هذه الأشياء بالضبط، ويرون الدم وأعضاء الجسم، لكن لا يعرفون الخلايا الحمراء والبيضاء ومكونات الدم بالدقة التي نعرفها نحن الآن، وكذلك إن مضينا في أبحاث جادة وبطريقة صحيحة فلن نعدم معرفة تفاصيل الأمراض الروحية إن شاء الله تعالى.

مسألة:

قد يستدل البعض بأنَّ العين مصدرها الروح بما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ (أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ كِتَابِ اللهِ عز وجل وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِالأَنْفُسِ)[18] لأن النفس تعني الروح، وهذا استدلال خاطئ على وجهين:

الوجه الشرعي: لم يثبت إجماع على أن النفس هي الروح، بل هناك خلاف قديم في التفريق بينهما.

الوجه اللُّغوي: للنفس في اللغة عدة معان. ففي كتاب العين[19] أنَّ النفس تعني الروح، وتعني الإنسان، وتعني عين الشيء. وفي مختار الصحاح[20] أُضيف إلى معاني النفس الدم والجسد. أما في تهذيب اللغة[21] فمعان أخرى كثيرة مثل العزة والأنفة وغيرها، أقتبس منها ما يلي: (والنفسُ: العينُ الّتي تُصيب المَعينَ)، )يُقَال: نَفِسَ عَلَيْك فلانٌ يَنفَس نَفَساً ونَفَاسَة، أَي: حَسدَك)، (وإنَّ فُلانا لنَفوسٌ: أَي: عَيُون-كثير العين-). وفي المعجم الوسيط[22] (نَفَسهُ نَفساً: أصابه بعَين)، (نَافَسَ فِي الشَّيْءِ: بَالغ فِيهِ وَرغِب، و-نافَس- َفُلانًا فِي كَذَا سابقه وباراه فِيهِ من غير أَن يلْحق الضَّرَر بِهِ)، (الناَّفِسُ: العائن أَو الْحَاسِد)، (يُقَال أَصَابَته نفسٌ: – أي- عين)، (النّفُوس: الحسود)، (وَرجل نَفِيس: – أي – حَاسِد). وما اقتبسناه من معانٍ من تهذيب اللغة والمعجم الوسيط هو ما أكَّدَهُ راوي الحديث بأن المقصود بالأنفس هو العَين لا غيرُه. ولا شَكَّ أن معنى الحديث لن يكون مستقيماً إذا قيل أن أكثر الأمة تموت بالأرواح.

ملحوظة:

نجد بعض الناس في عصرنا يتكلم عن الأمراض الروحية وكأنها أمراض شرعية، وهذا ابتداع منهم ووقوع في خطأٍ جسيم بنسبتهم هذه الأمراض إلى الشرع، فلا يوجد أي دليل من القرآن والسنة على أنها أمراض شرعية، وإنما هي مثل غيرها من الأمراض كالحمى والالتهابات والكسور وغير ذلك مما يعالجَ بالطب. أمَّا أنَّ سبب الحسد والسحر هو بعد الناس عن شرع الله وعدم خوفهم منه وعدم رضاهم بما قدَّرَه وكتَبَهُ فهذا صحيح، لكن لا يجعل منها أمراضاً شرعية، بل هي مثل تسميم الناس أو حقنهم عمداً بما يضرهم، أو التعدي على الغير ظلماً بما يسبب جروحاً أو أمراضاً عضوية، فهؤلاء أيضاً لم يخافوا الله ولم يرضوا بما قسمه الله، فهم سواء مع من يحسد أو يسحر.

العلاجات المادِّية:

وُجِدت منذ القِدم علاجات مادية للأمراض الروحية وذلك من دون أن تقترن بالرقية. وأثبتت التجارب الآن وسابقاً فائدة هذه العلاجات للتخلص من الأمراض الروحية. وذلك مثل ماء البحر وورق السدر والحرمل والشذاب والملح وغير ذلك. فهذه الأشياء إن عولِجَ بها كانت ذات فائدة سواء قُرِئَت عليها الرقية أم لم تُقرأ. بل إن اغتسال المعيون بغسول العائن عُدَّ من العادات والعلاجات المادية، قال الإمام ابن حجر رحمه الله : (أَمْرُ الْعَائِنِ بِالاغْتِسَالِ عِنْدَ طَلَبِ الْمَعْيُونِ مِنْهُ ذَلِكَ؛ فَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الاغْتِسَالَ لِذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ)[23]، وقال الإمام المازري رحمه الله (مَتَى خَشِيَ -المعيون- الْهَلاكَ؛ وَكَانَ اغْتِسَالُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالشِّفَاءِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ-يعني يصبح واجباً-، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ وَهَذَا أَوْلَى)[24]. ولا شك أن مزيداً من الأبحاث الطبية والعلمية يمكنها إيجاد علاجات وأدوية أخرى مفيدة ومجدية للأمراض الروحية. وبسبب اختلال المفاهيم انتشر عند الناس أن يطالبوك بالدليل من القرآن أو السنة إذا أتيت بعلاجٍ مادِّيٍ لأحد الأمراض الروحية. ولإزالة هذا الإشكال عند الناس ببساطةٍ يُجابُ على هذا بوجهين، الوجه الأول أن تطالبهم بالدليل من القرآن والسنة أن الأدوية التي تباع في الصيدليات ذات فائدة للتخلص من الأمراض العضوية؟  هل لديهم دليل شرعي أن الفولتارين يخفف الآلام؟ أو أن البندول يخفف الصداع؟ أو أن الجلوكوز يغذي المريض؟ ما الذي يجعلهم يفرِّقون بين هذا وذاك؟ والوجه الثاني فالجواب أسوقه من قصة طريفة، وهو أن أحد المستشرقين أتى إلى عالم من علماء الإسلام وأراد أن يستهزئ بالقرآن فسأل قائلاً: أليس كتاب ربكم يقول {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ]الأنعام: ٣٨[، فرد العالم بالإيجاب وأنَّ هذا صحيح، فسأل المستشرقُ العالِمَ أَنِ استخرج لي من كتاب الله الكمية المطلوبة من الدقيق التي ينبغي استعمالها لعمل رغيف من الخبز. ومع أنَّ المقصود بالكتاب في هذه الآية هو الكتاب العظيم في اللوح المحفوظ كما قال المفسِّرون؛ لكنَّ العالِمَ بدلاً من توضيح ذلك للمستشرق المستهزئ؛ وحتى لا يظن ذلك تهرباً؛ فإنَّه ردَّ عليه بإمكانية ذلك. ثم نادى الخباز وسأله عن الكمية المطلوبة من الدقيق لعمل رغيف من الخبز؟ فأجاب الخباز أمامهما. فقال المستشرقُ للعالِمِ طلبتُ الجواب من القرآن وليس من الخباز، فقرأ العالِمُ النَّبيهُ قول الله سبحانه وتعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} ]النحل: ٤٣[، ثم قال قد امتثلت للقرآن وسألت لك أهل العلم والخبرة في هذا الموضوع، وبمثل هذا الجواب يُجاب به من يسأل عن دليل لعلاج مادي من علاجات الأمراض الروحية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم: فالأول -دليل المشروعية- متوقف على الشارع، والثاني -دليل إمكانية الوقوع- يُعلمُ بالحس أو الخبر أو الزيادة، فالأول: الكتاب والسنة ليس إلا؛ وكل دليل سواهما يُستنبط منهما، والثاني: مثل العلم بسبب الحكم وشروطه وموانعه فدليل مشروعيته يرجع فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث، ودليل وقوعه يرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأسباب والشروط والموانع)[25].

كيف تسبب الأمراض الروحية الأمراض العضوية والنفسية؟:

يُنكرُ كثيرون خاصَّةً من الأطباء القولَ بأنَّ الأمراض الروحية تتسبب بأمراض عضوية ونفسية، لأنَّ هذا مناقضٌ لما درَسُوه وتعلَّمُوه، ولأُشَبِّهَ لهم الكيفية أضربُ لهم المثال التالي، إذا زرت مع طفلك الصغير شخصاً كُسِرت قدمه وسألته عن سبب الكسر فأجابك أن السبب أنه لم ينتبه إلى حفرة، فإنَّ طفلك الصغير قليل العلم والفهم والخبرة قد يتوجه إليك بسؤال أننا جميعاً لا ننتبه إلى حفر كثيرة ونمر بجانبها ولا تنكسر أقدامنا، لكنك الإنسان البالغ العاقل الخبير تستطيع أن تُفهِم الطفل أن هذا الشخص لم يقصد أن رجله تكسرت بمجرد عدم الانتباه إلى الحفرة، بل لأنه سقط فيها. وإذا كنت مع نفس الطفل ورأيت أحد أصدقائك قد تحطمت أنوار سيارته وسألته عن السبب فأجابك لأن فلاناً من الناس قد قطع الإشارة الحمراء؛ فإن طفلك قد يسألك أن فلانا هذا دائما يقطع الإشارة الحمراء في جميع الأحياء التي يسوق فيها فما دخل ذلك بتحطم الأنوار، فتجيبه أن السبب ليس مجرد قطعه للإشارة، وإنما هناك سبب محذوف لم يُخْبَرُوا به وهو إما أنَّ فلاناً بعْدَ قطعه للإشارة صدم سيارة صديقك، أو أن سيارة صديقك انحرفت لتجنب الاصطدام فاصطدمت بمكان آخر. وهكذا عندما نقول أنَّ العين والحسد وبقية الأمراض الروحية تسبب أمراضا عضوية كالسَّرَطان وغيره فإننا نُواجَهُ بالإنكار ممن لم يتبحَّر في هذا المجال ولم يتعلمه، ومثلما أجاب بطل مثالنا طفله فنجيب بقولنا أن الأمراض الروحية تسبِّبُ الأسبابَ التي تؤدي إلى الأمراض العضوية، وهذه الأسباب قد تكون خافية عليكم لأنكم لم تبحثوا فيها ولم تشاهدوها بأجهزتكم.

طبعاً ما سبق لا يحمل جواباً علمياًّ على كيفية التأثير، وإنما هو مثال لتشبيه ما يحصل،  والمقصد أنَّ هناك أشياء تُحدِثها الأمراض الروحية لم نصل نحن إلى المرحلة التي يمكننا فيها رؤية ذلك أو معرفتها، بل نرى الأعراض الناتجة عن ذلك، والسبب أنَّه لم يقم أي أحد بأبحاث للوصول إلى معرفة ذلك. وتنتشر بين الرقاة فرضِيَّات واحتمالاتٌ لا يمكن الجزم بأي منها من دون أن يحصُل بحث علمي حول ذلك.

لكن من الصريح والواضح أن الجن يؤدي إلى أمراض عضوية، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطاعون أنَّه وخز الجن،  فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَرَفْنَا الطَّعْنَ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ)[26].

والطاعون (Plague) معروف عند الأطباء بأنَّه مرض بكتيري معدٍ، يرون له مسببات أخرى مثل قرصة الذباب أو مع التنفس، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عنه وخز من الجن، وإذا قرأ بعض العقلانيين هذا الحديث فإنهم سينكرونه ويردوه لعدم استطاعة عقولهم الجمع بين الحديث والواقع، لكن لو وسَّع هؤلاء عقولهم لوجدوا أن الجمع ممكن بين الحديث وبين ما عرفه الأطباء، وهو أنَّ هؤلاء الجن هم من يتولى إدخال البكتيريا إلى الإنسان عن طريق وخز الجسم، وقد يستعمل الجن الذباب أداة للقرص وإدخال البكتيريا، وقد نصل لاحتمالات أخرى كثيرة لكيفية وخز الجن للإنسان لا تعارض بينها وبين ما وجده الأطباء. فالأطباء عرفوا سبَباً، لكن لم يعرفوا السَّبَبَ الأوَّل. وهكذا يمكن القول لكثير من الأمراض، قد يكون الجن أو الأمراض الروحية سبباً رئيسا فيها، لكن الأطباء لم يكتشفوها وإنما اكتشفوا الأسباب التي تليها.

هل يؤدي زوال الأمراض الروحية إلى زوال الأمراض العضوية الناتجة عنها؟

قبل أن نجيب على السؤال نضرب هنا مثلين:

المثال الأول: لو أنَّ غصن شجرة سقط بسبب عين من شخص ما، ثم قمنا بإزالة العين من الشجرة فإن الغصن سينبت من جديد، وبعد مدة ما فإن غصنا جديداً سيكون موجوداً بدل الغصن الذي سقط من دون أن نبذل أي جهد آخر.

المثال الثاني: لو أنَّ كأساً من زجاج انكسرت بسبب عين من شخص ما، وقمنا بإزالة هذه العين، فإنك مهما تترك الزجاج فإنه لن يعود إلى محله، بل يلزمك استعمال أدوات خاصة لإعادته كما كان، أو استبداله.

لو فهمنا المثالين السابقين فإنَّه يمكن فهم ماذا سيحصل للأمراض العضوية لو زالت الأمراض الروحية المسببة لها، فإذا كان المرض من الممكن زواله بلا علاج فإنه سيزول، وأما إن كان المرض العضوي سببه لا يزول بمجرد زوال المرض الروحي فإنه سيلزمه العلاج المناسب.

فائدة:

في حديث الطاعون المذكور آنفاً نجد أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يوضِّح أنَّه قتل للإنسان من الجن مثلما يحصل في الطعن البشري، وأنَّ كِلا الأمرين -أي الطعن البشري أو الموت بالطاعون الذي هو وخز الجن- يعتبران شهادة، ويعتبر المريض الميت شهيداً، ولذا نأمل ونرجو أنَّ كل مريض يموت بسبب اعتداء الجن عليه أن يكون عند الله شهيداً في الآخرة، والله أعلم.

ملحوظة:

تبيَّن لنا بالتجربة أنَّه كل ما ابتعد المريض عن مصدر الأمراض الروحية ضعف تأثيرها عليه، فلو ابتعد عن مكان سحره، أو عن المكان الذي أصيب فيه بالعين فإن التأثير يخف عليه، وهذا يفسر لنا لماذا عندما نسافر إلى مدن أخرى غير التي نسكن فيها فإننا ننشط ونشعر براحة أكثر مما نشعرها في المدن التي نسكن فيها.

ملحوظة:

يقع البعض في خطأٍ بقولهم أنَّ الشريعة جاءت باغتسال المعيون من وضوء العائن لعلاجه، وهذه الجملة خاطئة توهم وكأنَّ الأمر جاء وحياً وأمراً من الله، والصواب القول أنَّ الشريعة أقرَّت بهذا العلاج، وليس جاءت به.


-[1] تهذيب اللغة للأزهري، باب الحاء والراء.

-[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للفارابي، فصل الراء، روح.

-[3] المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، باب الراء.

-[4] المرجع السابق.

[5]- الأطباء سابقاً كانوا أكثرهم فلاسفة.

-[6] مفاتيح العلوم لمحمد بن أحمد بن يوسف، أبو عبد الله، الكاتب البلخي الخوارزمي (المتوفى: 387هـ)

[7]- القانون لابن سينا، الجزء الأول، الفن الأول، في حد الطب وموضوعاته من الأمور، التعليم الأول.

[8]- القانون لابن سينا، الجزء الأول، الفن الأول، في حد الطب وموضوعاته من الأمور، التعليم الثالث.

[9]- المرجع السابق.

[10]- القانون لابن سينا، الجزء الأول، الفن الأول، فصل أبوال النساء والرجال.

[11]- ما زال مخطوطاً، راجع مقدمة الجزء المطبوع من كتاب الشامل للمحقق يوسف زيدان.

[12]- زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل الطب النبوي، فصل طب الأبدان.

[13]- زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل الطب النبوي، فصل الحث على التداوي وربط الأسباب بالمسببات

[14]- زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل الطب النبوي، فصل صرع الأخلاط.

[15]- زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل الطب النبوي، فصل في تدبيره -صلى الله عليه وسلم- لأمر النوم واليقظة.

-[16] زاد المعاد في هدي خير العباد، فصل الطب النبوي، فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين.

[17]- إحياء علوم الدين للغزالي، ربع المنجيات، كتاب الصبر والشكر، الركن الثاني من أركان الشكر.

[18]- رواه الطيالسي في مسنده، والبخاري في التاريخ الكبير، والبزار كما في كشف الأستار، حسنه ابن حجر في فتح الباري. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، خَلاَ الطَّالِبِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ ثِقَةٌ). وقال ابن حجر في التقريب عن طالب بن حبيب صدوق يهم.

[19]- كتاب العين للخليل الفراهيدي، حرف السين، الثلاثي الصحيح، باب السين والنون والفاء.

[20]- مختار الصحاح لزين الدين محمد الرازي، باب النون.

[21]- تهذيب اللغة لمحمد بن أحمد بن الأزهري، باب السين والنون مع الفاء.

[22]- المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، باب النون.

[23] فتح الباري لابن حجر، شرح حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (العَيْنُ حَقٌّ) وَنَهَى عَنِ الوَشْمِ، باب العين حق.

[24] المرجع السابق، والجمل الاعتراضية من إضافتي.

[25]- بدائع الفوائد لابن القيم، المجلد الرابع.

[26] رُوي بسند صحيح في الآثار لأبي يوسف، باب الغزو والجيش، وجاء بسند آخر في المعجم الصغير للطبراني، وصححه ابن حجر في فتح الباري، وذكر تصحيح خزيمة والحاكم له. كما صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.

آخر فعاليات الأكاديمية:

Open chat تواصل معنا
مرحبا.. كيف يمكننا خدمتك؟
Hi.. Can we help you?