--!> المقال الثالث (تابع للثاني): هل الرقية دعاء وعبادة أم لا؟
Slider

جديدنا:

  • تم افتتاح كلية العلوم الطبية في تخصصات الطب
    البديل والتكميلي وغيرها.. بجميع الدرجات العلمية (بكالوريوس – ماجستير –
    دكتوراه) وبنظام الدراسة عن بعد أو معادلة الخبرات – وبتصديق من التعليم العالي
    والخارجية والسفارات – للتفاصيل اضغط هنا
  • اعتماد الدورات من كليات عالمية وتوثيق من الخارجية والسفارات.
  • يمكننا تشخيص حالتك وعمل جلسات الرقية الشرعية عن بعد: اضغط هنا للمزيد…

المقال الثالث (تابع للثاني): هل الرقية دعاء وعبادة أم لا؟


المقال الثالث (تابع للثاني): هل الرقية دعاء وعبادة أم لا؟

ولنطالع بعض الأمور الأخرى التي تثبت أنَّ الرقية ليست دعاء أو عبادة:

1-      مَرَّ معنا حديث رقية النملة للشفاء رضي الله عنها، نَصُّ الحديث يبين أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف رقيتها ولذلك طلب منها عرضها عليه صلى الله عليه وسلم، ثم طلب منها تعليمها لحفصة رضي الله عنها، فهل يُعقل أنَّ يكون الصحابي أعلم بالدعاء والعبادة من الرسول صلى الله عليه وسلم.

2-      لم يَعرف الصحابة رضي الله عنهم أن سورة الفاتحة رقية، ولم يُعَلِّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ثُمَّ عرفوا ذلك بالتجربة وذلك في الحديث المشهور عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا، فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاَثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ – قَالَ: لاَ، مَا رَقَيْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لاَ تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ – أَوْ نَسْأَلَ – النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ)[1]. [سَلِيمٌ: لديغ أو مريض، يُقال له سليم تفاؤلاً- مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ: ما كنا نعلم أَنه يرقي]. فإن كانت الرُّقية عامةً وبسورة الفاتحة خاصَّةً عبادةً فلماذا ترك رسول الله اكتشاف أنَّ الفاتحة رقية للاجتهاد البشري؟ هل نقولُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله قَصَّر في تعليم العبادات؟

3-      واضح من روايات الحديث السابق أنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يكن عندهم إشكال في أخذ الأجر على الرقية، بل كان هذا أمراً شائعاً وعادياًّ مثل أجرة أي طبيب، وإنما وقعت الشبهة عندهم لسببين:

السَّبب الأول: أنَّ الصحابي الراقي رضي الله عنه اشترط الأجرة مقابل الرقية قبل البدء بقوله (فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً)[2] كما في الرواية الأخرى في صحيح البخاري، ولم يكن يعرف الرقية، ولم يكن يعرف أن سورة الفاتحة رقية، فخشوا أن يكونوا اكتسبوا مالاً على شيء لم يعملوه ولم يكونوا مؤهلين له فصار حراما، بعكس الكثير في زماننا ممن يدعي أنه يعلم كل شيء ومستعد لعمل أي شيء حتى إن لم يكن عنده ما يؤهله لذلك وهذا من عدم المبالاة في الحرام والحلال والله المستعان.

السبب الثاني: أنهم أخذوا مالاً على قراءة القرآن كما في الرواية الأخرى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ)[3].

ومن المعلوم أنه لا يجوز بأي حال أخذ الأجرة على الدعاء، فكيف حلَّ أخذها على الرقية؟ أي أنه لا يجوز أن يطلب منك شخص مالاً مقابل الدعاء لك، فكيف جاز ذلك في الرقية إن كانت دعاء؟ الجواب أنَّ الرقية ليست دعاء. وقد استدل كثير من الفقهاء بهذا الحديث في أبواب الإجارة والجعالة، ومعلوم أنَّ الإجارة والجعالة لا تجوز في الدعاء.

4-      استدَلَّ بعض الفقهاء من حديث الرقية السابق على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ)، فكان من ردود الفقهاء الآخرين ما يلي:

أ‌-         يقول ابن قدامة الحنبلي (وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ –أي الرقية- وَبَيْنَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ-من تعليم القرآن وغيره-، أَنَّ الرُّقْيَةَ نَوْعُ مُدَاوَاةٍ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهَا جُعْلٌ، وَالْمُدَاوَاةُ يُبَاحُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، وَالْجَعَالَةُ أَوْسَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ)[4].

ب‌-    يقول أبو حفص الحنفي في أحد أجوبته على ذلك (الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة)[5].

ت‌-    يذكر ابن رشد المالكي أحد الردود فيقول (وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا: هو من باب الجعل على تعليم الصلاة. قالوا: ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن، وإنما كان على الرقي، وسواء أكان الرقي بالقرآن أو غيره؛ الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات. قالوا: وليس واجبا على الناس، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس)[6].

5-      نعلم أنَّ الرقيةَ موجودةٌ من قَبْلِ الإسلام كطريقةٍ طبِّيةٍ وعلم دنيوي، أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظها وأفعالها مالم يكن بها شركٌ كما سبق بيانه، وكانت موجودة في جزيرة العرب وخارجها، ولم يَرِدْ أنَّ هؤلاء قبل الإسلام كانوا يَروْنَ الرُّقية تعبُّداً لله ولا لغيره من الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، ولا زالت موجودة لدى الأمم الأخرى بلغات أصحابها وحسب ثقافتهم.

6-      قال ابن خلدون في مقدمته عن الرقية : “وكان عند العرب من هذا الطِّبِّ كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء[7] و إنما هو أمر كان عاديا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل”[8].

من جعل الرقية دعاء؟:

لم أستطع الوقوف على أول من قال بأنَّ الرُّقية دعاء وعبادة، وكما ذكرتُ فإنَّه ليس هناك من القرآن أو السنة أو فهم الصحابة ما يدل صراحة على أن الرقية دعاء، وإنما هو استنتاج واجتهاد بشري من العلماء الأفاضل والفقهاء المجتهدين، والقاعدة الفقهية تنص أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهؤلاء العلماء كان تصورهم وفهمهم للرقية أنها دعاء، لكن هذا الفهم والحكم قد جانب الصواب. بل هو معارض لفهم السلف الصالح رحمهم الله. وأغلب العلماء في زماننا مقلدون لمن سبقهم في هذا القول، ولا يُلامون على ذلك، بل من حق العالم أن يقلِّد فيما لم يستطع الاجتهاد فيه أو استيعابه، وقد تكون هناك عدة أسباب أدت لهذا الفهم الخاطئ، منها:

1-     حصل خلط بين الدعاء والرقية، من أسباب ذلك أنَّ كثيراً من الرقى كلماتها بصيغ الدعاء، فظُنَّ أن الرُّقية نوع من الدعاء، لكن هذا سبب غير صحيح، فمثلاً لو أنَّ أصحاب المعازف والغناء والرقص حولوا كلماتهم إلى الدعاء فقط فسيبقى عملهم يسمى عزفاً ورقصاً حتى لو غيروا مسمياتها إلى الدعاء والابتهال. وهناك رقى اشتهرت عند العرب وكلماتها لا تحوي أي دعاء مثل (العَرُوسُ تَحْتَفِل، وتَقتالُ وتَكْتَحل، غير أن لا تَعْصي الرَّجُل)[9]، وقولهم (شجة قرنية، ملحة بحري قفطي)[10]، وهاتين وإنْ لم نجد سندًا صحيحاً لمصدرهما إلا أنَّ إيرادهما في كتب اللغة دليلٌ على إقرار اللُّغويين أن الرقية قد تكون كلاماً عاماًّ بلا دعاء، وكذلك رقية (بِسْمِ اللَّهِ حَبْسٌ حَابِسٌ، وَحَجَرٌ يَابِسٌ، وَشِهَابٌ قَابِسٌ، رَدَدْتُ عَيْنَ الْعَائِنِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ: {فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: ٣]) [11] فهذه كذلك ليس بها دعاء، فقد اختُلِفَ في البسملة إن كانت دعاء أم لا، والمعيون هنا يزعم ردَّ العين بنفسه، ويتعدَّى في الرد إلى غير العائن حيث رد العين على أقرب الناس إلى العائن ممن ليس له ذنب ولا وزر في العين. ولو أنَّ شخصاً دعا اللهَ بدعوات، ونوى أن تكون كلمات الدعاء كذلك رقية، فهل تصبح الرقية دعاء وعبادة؟ الجواب أنَّه يكون دعاء ورقية، وذلك مثل الشِّعر، فلو أنَّ أحداً دعا بمثل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:

  اللهم لو لا أنت ما هتدينا   ***  ولا  تصدقنا ولا صلينا 
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا[12]

فهل هذا دعاء أم شِعْر؟ الجواب أنَّه دعاء وشعر، ولا يُقالُ أنَّ الشِّعر بعمومه وذاته دعاء وعبادة لمجيء شعرٍ دعاء، كما لا يقال أنَّ الشِّعر عبادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ردده، كذلك إن دعا شخص ونوى أن يكون دعاؤه رقية فهو إذاً دعاء ورقية، ولا يعمَّمُ على الرُّقية أنَّها كلها دعاء وعبادة.

2- استُعمِلَتِ الآيات القرآنية في الرقية، فظنَّوا أنَّ الرُّقية نوع من التعبد بالقرآن، فحصل خلط بين الرقية والتلاوة، وهذا خطأ فاحش، إذ أنَّ التعبد بتلاوة القرآن الكريم يكون كما شرعه الله وعلَّمنا إيَّاه رسوله صلى الله عليه وسلم، وللتلاوة والترتيل أحكام وقواعد يجب الالتزام بها، ويجب أن يصاحبها نية التعبد والاقتداء، كما أنها تستدعي التدبر والتفكر في الآيات، ولا تُقبل إلا من مسلم. ويُثاب القارئ على كل حرف يقرؤه عشر حسنات، وللتلاوة أثر حتمي وبركة تحل على القارئ وكل ما يتعلق به من صحة ومال وممتلكات وأعمال وأهل، مثل بركة سائر الطاعات. أمَّا الرُّقية فلم يَرِد أن الله شرعها، بل قد يكون أصلها اكتشاف بشري من قبل الإسلام، ولا يُشترط لنجاحها نية الإخلاص والتعبد لله، وهي قراءة بلا قواعد ولا ترتيب، وكلماتها تُختار بلا ترتيب حسب الألفاظ أو المعاني أو الفضائل، وقد تكون بغير القرآن، وقد تجد رقية مختلطة بها آيات من القرآن مع كلمات أخرى ليست من القرآن، وتأثيرها غير حتمي، ولم يُشترط فيها أن يكون الراقي مسلماً. وكما قلنا عن الرقية بكلمات الدعاء نقول هنا لو أنَّ شخصاً قرأ القرآن بنية التعبد، ونوى أن تكون تلاوته رقية، فإنَّ ذلك بالمثل يسمى تلاوة ورقية، ولا يُعمَّم على الرقية أنَّها عبادة. ولو أنَّ شخصاً قرأ كتب الحديث النبوي أو العلوم الشرعية أو استمع إليها بنية الاستفادة والرقية، فإنَّ ذلك يكون تعلُّماً ورقية، فالرقية بذاتها هي المداواة بالألفاظ مهما كان مصدر هذه الألفاظ.

3-  لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلها وأقرَّها ظنَّ البعضُ أنها عبادة؟ والجواب أنَّه ليس كلُّ ما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل في باب العبادات والأمور التعبدية، بل هناك ما يسمى بباب العادات والعاديات، وكذلك الأخذ بالأسباب الدنيوية، مثل ملبسه ومأكله وتَطَبُّبِهِ بالطرق الأخرى عليه الصلاة والسلام.

4- قد يكون بعضهم رجع إلى ما يرادف الرقية في اللغة ألا وهو العوذة، والعوذة من الالتجاء، ومعلوم أن الالتجاء بالله دعاء وعبادة، لكن هذا الاستدلال خاطئ، لأنه طالما حضرت الأدلة وعرفنا كيفية الفهم من قِبل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ثم السلف الصالح رحمهم الله فلا عبرة هنا لمعنى الكلمة وما يرادفها ولا بما كان يفهمه عرب الجاهلية.

5- جاء في تعريف الرقية أنَّها “كلام يُستشفى به من كل عارض”[13]. والاستشفاء طلب الشفاء وذلك لا يكون إلا من الله وذلك دعاء وعبادة، وهذا فهم خاطئ للتعريف إذ أنَّ العرب كانت تضع الشفاء موضع العلاج، ويستشفى به أي يُعالَجُ به، ولو فتحت كتب مفردات اللغة لوجدت أن كثيراً من الأدوية والأعشاب ذُكر أنه يستشفى بها[14]، والمعنى أنه يُعالَج بها. بل إنَّ هذا التعريف تأكيد أنَّ الرقية من العلاجات والمداواة مثل غيرها لا فرق بينهم وليست دعاء أو عبادة.

6- كون الرسول الله صلى الله عليه وسلم وضع للرقية ضابطاً خاصاًّ، جعل البعض يظنُّ أنَّ الرقية من العبادات، وقد أجبت سابقا في هذا الفصل أنَّ الشرك يقع في الألفاظ بلا عبادة، وأضيف أنَّ الضابط الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على شمولية الإسلام وضبطه لجميع أمور الحياة، وقد حدَّد الإسلام معاييراً لكل شيء نفعله في حياتنا سواء كان هذا الشيء عبادة أم لا. فمثلاً الشِّعرُ بحد ذاته ليس بعبادة، لكنَّهُ لا يجوز أن نقول شعراً به شرك بالله أو ألفاظاً مكفِّرةً أو مخالفة لقيم الإسلام وأخلاقه، كذلك البيع والشراء، وما أفقه الإمام الشافعي رحمه الله حين شبَّه الرقية بالطعام والنكاح، فجميع البشر يطعمون ويتناكحون، لكن الإسلام جعل ضوابط للطعام، فلا تأكل أو تشرب ما حرَّم الله، وطريقة الطعام لها آداب وأوامر لا بد من الالتزام بها، وكذا النكاح له شروط وواجبات، والجماع له ضوابط وتقييدات، بل حتى إن دخول الحمام وما تفعله داخل الحمام ضبطه الإسلام وقننه.

مسألة:

قد يقول قائلٌ أنَّ الرُّقية تقرِّب العبد إلى الله فأليس ذلك يجعلها عبادة؟ فالجوابُ أنَّ الرقية بحدِّ ذاتها لا تقرِّب إلى الله، بل إنَّ ما يقرِّب المريض والمبتلى إلى الله هو إيمانه ويقينه أنَّ الشفاء والفرج بيد الله، سواء تداوى بالرقية أو بالأدوية أو غير ذلك. وكم من كافر لا يؤمن بالله ولا يتقرب إليه إلاَّ أنّه قد استرقى وانتفع بالرقية. فالتقرب إلى الله ليس شرطاً ولا ركنا لنجاح الرقية حتى ولو بدا ذلك من سمات الرقاة أو المسترقين، وإنما هي حالة مشتركة تعم كثيراً من المرضى ومن وقع في الابتلاء بغض النظر عن طريقة تداويه. كما أنَّ كثيراً من الناس يظنون أنَّ الرقية عبادة شرعية توصله إلى الشفاء فيظنُّون أنهم بذلك يتقربون ويقتربون إلى الله U؛ وهذا ظن باطل بني على ظن آخر باطل. أماَّ من يزداد يقيناً بالله لرؤية أثر كلامه سبحانه وتعالى في الرقية فهو مثل من يتعلم ويقرأ عن الإعجازات العلمية لكتاب الله فيتأثر بها، فكل تمعن وتفكر في كلام الله وأثره يزيد في الإيمان واليقين وليس ذلك خاصاًّ بالرقية. وبعضهم لم يفرِّق بين التِّلاوة الشرعية والرقية الطبية والله أعلم.

مسألة:

لو قال قائل: أليس مقدار إيمان الشخص عامل في تأثير الرقية على المرضى؟ وأليس الإيمان لا يزيد إلا بالعبادة؟ فالجواب أن القول بأن تأثير الراقي يعتمد على إيمانه ويقينه كلام ليس له أيضاً دليل صريح من شرع الله عز وجل، ولكنه أيضاً استنتاج بشري ومفهوم مبتدع لا دليل على صحته. وكم رأيتُ من راق له أثر صحي جيد على المريض بسبب رقيته؛ ثم اكتشفتُ أنَّ لهذا الراقي أعمالاً تقدح في دينه وأخلاقه وتبعده عن الله. وكم رأيتُ من راقٍ مشهود له بالدين والتقوى والقرب من الله ظاهراً وباطناً؛ لكن رقياه لا تأتي بنتيجة تُذكر[15]. ولا شك أنَّ اليهودية التي رقت عائشة رضي الله عنها وأهل الكتاب لا توجد لديهم ذرة من إيمان.

وقد نقلتُ قول المازري من قبل عن تأثير الرقية فقال رحمه الله (وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَشْخَاص وَالأَحْوَال) ولم يُرجِع ذلك إلى إيمان الراقي، وقد أرجع القرافي تأثير الرقى إلى خواص النفس، فيقول رحمه الله (وَكَذَلِكَ الرقي والطلسمات وَالسِّحْرِيَّاتُ تَابِعٌ لِخَوَاصِّ النُّفُوسِ، فَرُبَّ رُقْيَةٍ تُؤَثِّرُ مَعَ شَخْصٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَنْ جَرَّبَ وَجَد، وَلَا عَجَبَ فِي أَنْ تَكُونَ النُّفُوسُ مُخْتَلِفَةَ الْخَواص)[16]، كما ذهب منظروا الطب اليوناني[17] إلى أن عصارة الراقي وطبعه يلعبان دوراً في تأثير رقيته، فقالوا من كانت عصارته دموية أو طبعه حاراًّ رطباً كان أكثر تأثيراً في الرقية والعلاج. ولا يُمكِن التسليم بأي قول حتى يُفتَح باب البحث والاستقراء بالتجارب في هذا المجال فإن ذلك جدير أن يأتي بالجواب الصحيح.

مسألة:

لو قال قائل أنَّ بعض الرقاة يعطيهم الله كرامات تظهر على رقاهم للمرضى فيشفون سريعاً، فنقول أنَّ هذا لا يجعل الرقية دعاء أو عبادة، بل إنَّ الكرامات يؤتيها الله لمن شاء من خلقه على حسب إيمانه وتقواه، وقد تعطى للطبيب أو الصيدلي أو العامل وغيرهم.

إذاً كما ذكرتُ فإن الرُّقية طريقةٌ للعلاج، وعِلْمٌ من فروع الطِّب،كانت موجودة في الجاهليَّة قَبْلَ الإسلام ثم بعد الإسلام، يرقي بها المسلم وغير المسلم. وعندما نقول أنَّ الرقية طب وليست بعبادة فوجب علينا إخراجُها مِنْ كلِّ ما يتعلَّقُ بفقهِ العبادات، وإعادتها إلى فقه الطب والمداواة، كما وجب الرجوع إلى أهل الخبرة في هذا الباب كغيرها من العلوم، والله أعلم.

ولا يُرادُ هنا المعنى القصدي والجزائي في عَمليَّةِ المعالجةِ وطَلَبِ العلاج، فلا شكَّ أنَّ المريضَ إنْ كانت نيَّتُه الاستنانَ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم للتَّدَاوِي؛ أو كان قصْدُه التَّقَوِّي لأداء العبادات والواجبات؛ فَهُو إذاً في عبادة، سواءً طَلبَ المداواةَ عنْ طريقِ الرُّقيةِ أَو غيرِها ممَّا أباحهُ الله، وكذلك فإنَّ المعَالِج إنْ نوى خِدمةَ المرِيضِ والإحسانَ إليهِ وإزالةَ غَمِّهِ وتفريج كُرْبَتِهِ فهُوَ أيضاً في عبادةٍ ينالُ بهَا أجراً؛ سواءً كانَ المعالج المداوِي راقياً أو طبيباً أو عشاباً أو حتى صيدلانياً.

 وبعدَ أنْ تناولنا هذِهِ المقدِّمةَ لنطرح بعض الأسئلة والاستفسارات ثم لِنُجِبْ عليها.

كما نبين أن الاجتهاد في الرقية بابه واسع وليس محصورا على القرآن والأدعية النبوية فقط، ولهذا في الحديث حينما جاء الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنهم كانوا يرقون في الجاهلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن رقى الجاهلية كلها وأن يلتزموا بالكتاب والسنة فقط، بل قال لهم أن يعرضوا عليه رقاهم، ولا بأس بالرقى ما لم تكن شركا.

   ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمح لهم بالاجتهاد ونفع الناس بأي طريقة بشرط خلوها من الشرك والمحرمات، وكذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم “اعرضوا علي رقاكم” ولم يقل “خذوا مني رقاكم”، مما يدل أن لكل منهم طرقه في الرقية والعلاج وأن الرقية اجتهادية، والعبرة بخلوها من الشرك أو ما حرم الله تعالى.

وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه “المغني” قصتين في ذلك:

وَأَمَّا مَنْ يَحُلُّ السِّحْرَ، فَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْإِقْسَامِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ السِّحْرِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَحُلُّ السِّحْرَ، فَقَالَ: قَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّهُ يَجْعَلُ الطِّنْجِيرَ مَاءً، وَيَغِيبُ فِيهِ، وَيَعْمَلُ كَذَا، فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ، وَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: فَتَرَى أَنْ يُؤْتَى مِثْلُ هَذَا يَحُلُّ السِّحْرَ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا، وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ مُحَمَّدُ: مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا عَلَى حَالٍ، وَلَا أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ؟

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ يُؤْخَذُ عَنْ امْرَأَتِهِ، فَيَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ، فَقَالَ: إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ، وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَ أَخَاك فَافْعَلْ. فَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَزِّمَ وَنَحْوَهُ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي حُكْمِ السَّحَرَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ.

فلم يحرم العلماء الأولون الطرق العلاجية في الرقية والاجتهاد فيها.


[1] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب.

[2]- صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب.

[3]- صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، وقد يكون حديثاً متعلقاً بصحابة آخرين في حادثة مختلفة، والله أعلم.

[4]- المغني لابن قدامة، فصل ما لاتجوز إجارته، فَصْل حُكْم الْإِجَارَة فِي الْقُرب الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ (أي المسلمين). ولم يشترط ابن قدامة في كتابه أن تكون الرقية من أهل القربة فقط وليس في كلامه أبداً ما يدل على ذلك.

[5]- الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة، عمر بن إسحق بن أحمد الهندي الغزنوي، سراج الدين، أبو حفص الحنفي (المتوفى: 773هـ)، كتاب الإجارة.

[6]- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد الحفيد القرطبي (المتوفى: 595هـ)

[7]- إن كان ابن خلدون يقصد أنه ليس من العبادات في شيء فصحيح استنتاجه، أما إن كان يقصد أن العلاجات الطبية لم تكن توحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كلام لا دليل عليه.

[8]- مقدمة ابن خلدون.

[9]- العين للفراهيدي، باب اللام والنون والميم معهما ، نمل، وقد نُسبت هذه الرقية إلى الشفاء رضي الله عنها لكن ذلك إسناد لا أصل له، ونُسبت إلى عمر بن العزيز بإسناد ضعيف.

[10]- العين للفراهيدي، باب القاف والطاء والفاء معهما، قفط.

[11]- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، فصل الطب النبوي، فَصْلٌ ذِكْرُ رُقْيَةٍ تَرُدُّ الْعَيْنَ.

[12] الشعر للصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يردده في غزوة الخندق، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق.

[13]- في عدة مراجع، منها ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن درستويه، شرح باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب.

-[14] مثلاً في العين للفراهيدي باب الجيم والراء (واليارجُ: من الأدوية، مُرٌّ يستشفى به لحدّة النظر)،  وفي المخصص لأبي الحسن المرسي (وَقيل الحَلُوء حَجرٌ بعيْنِه يُسْتشْفَى بِهِ من الرَّمَد)، وتعريف الكحل في المعجم الوسيط (كل مَا وضع فِي الْعين يستشفى بِهِ مِمَّا لَيْسَ بسائل كالإثمد وَنَحْوه)، وغير ذلك كثير.

[15]- رأيت بعض الرقاة ممن اشتهرت رقيتهم بالفائدة والتأثير أنه ممن ليس له همٌّ إلاَّ السعي وراء المال، ويردون الفقراء ومن لا يستطيع الدفع، وقابلت من همه النساء واستغلالهن والعياذ بالله، بل رأيت رقاة لا يهتمون بصلاة الجماعة، وبعضهم لا يظهر عليه آثار الالتزام، كما رأيت رقاة عندهم انحراف في العقيدة، وكلهم يتأثر عندهم المريض ويستفيد، ووجدت بالعكس بعض العلماء الأفاضل ممن عُرِف عنهم التقوى ومراقبة نحسبهم على خير والله حسيبهم لكن كان تأثر المرضى عندهم خفيفاً واستفادتهم ضعيفة، والقصص في هذا الباب كثيرة يعرفها بالخصوص من عاش عالم الرقية راقيا أو مسترقياً، وذِكرها قد لا يفيد حيث أنَّه يكفينا أن لا دليل من شرع الله أن إيمان الراقي معيار في قوة تأثير الراقي.

[16]- الذخيرة لأبي العباس شهاب الدين القرافي المالكي (المتوفى: 684هـ)، كتاب الجامع، الجنس الثالث: الأفعال، النوع الثامن عشر: العين والوضوء إليها.

[17]- هو الطب الذي اشتهر به المسلمون من عهد الخلافة العباسية إلى ما قبل الاستعمار، وكان من عظمائه كثير من المنتسبين للإسلام كابن سينا والرازي وابن البيطار، كذلك الإمام ابن القيم رحمه الله، ولمزيد من التفصيل راجع الفصل الخامس عشر عن الطب اليوناني في هذا الكتاب.

آخر فعاليات الأكاديمية:

Open chat تواصل معنا
مرحبا.. كيف يمكننا خدمتك؟
Hi.. Can we help you?